أوضح العبارة في عدم اشتراط انشراح الصدر بعد الاستخارة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أوضح العبارة

في عدم اشتراط انشراح الصدر

بعد الاستخارة

إعداد

أحمد بن عمر بن سالم بازمول

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمداً عبده ورسوله

ألا وإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار

أما بعد

فقد سألتني أخي بارك الله فيك عن قولي في درس الدرر البهية :” من الأمور التي ينبغي أن ننبه عليها كما نبه عليها العلماء في الاستخارة أن بعض الناس في الاستخارة يقول والله قلبي ليس مطمئناً أو قلبي فرحان ، فنقول له لا ليست القضية في قلبك فرحًا أو سرورًا ، إنما القضية أن تأخذ بالأسباب بعد أن تستخير الله –عز وجل – إن كان خيرًا تم وإن كان شرًا صُرف عنك ؛ لأن بعض الناس، تقول له لِمَ لمْ تفعل كذا وقد استخرت الله ، قال : انقبض قلبي ، هذا خطأ ؛ فالعلماء قالوا : ليس انقباض القلب عن الأمر دليلًا على أنه غير جيد ؛ لأن النفس الإنسانية غالبًا من الأمر الذي لا تعرفه تتخوف ، فهذا الخوف والتخوف هو انقباض النفس ، فلا تجعل انقباض نفسك هو الخيرة “

ووجهت لي مجموعة من الأسئلة :

ما خلاصة قولك هذا ؟

وما دليلك عليه ؟

وما وجه الاستدلال ؟

ومَنْ مِنَ العلماء قال بذلك ؟

وما حجة من قال من العلماء : إن انشراح الصدر أو عدم انشراحه دليل على الاستخارة فعلاً أو تركاً ؟

وما حجتك في عدم الأخذ بهذا القول ؟ وهل يعتبر عدم أخذك بقول العالم من باب التقدم بين يدي العالم ومن سوء الأدب مع العالم ؟

فلما رأيت سؤالك مهماً ويحتاج إلى جواب يُذهب الإشكال، والاعتراض؛ أجبته – مع كثرة المشاغل والصوارف عن الإجابة – ولكن رجاء الثواب من الملك الواحد الديان – أسعفتك إلى طلبك معتمداً على الله – وحده لا شريك له – .

وسميت جوابي : أوضح العبارة في عدم اشتراط انشراح الصدر بعد الاستخارة

فأقول مستعيناً بالله تعالى :

ابتداء أشكرك على حسن عرضك في السؤال، وأدبك في المقال .

وهكذا ينبغي لطالب العلم حين يسأل إخوانه طلاب العلم – فضلاً عن العلماء – أن يتأدب ويحسن عرض السؤال وأن يبتعد عن الكبر وفحش الكلام؛ حتى يبارك له في العلم ويوفق لما فيه صلاحه .

فأما تلخيص قولي :

فهو أن الاستخارة المشروعة : هي أن يعزم العبد على شيء واحد من الفعل أو الترك ثم يستخير الله على ما عزم عليه من الفعل أو الترك ولا يعلق العمل بعد الاستخارة بانشراح الصدر أو انقباضه .

فلا يلزم بعد الاستخارة أن يشعر بانشراح وراحة فيكفي أن يعتقد موقناً بأن الله سبحانه سيختار له ما فيه الخير والصلاح .

وأما الدليل على ما ذكرته :

فما رواه جابر بن عبد الله السلمي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: ” إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر – ثم تسميه بعينه – خيرا لي في عاجل أمري وآجله – قال: أو في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال: في عاجل أمري وآجله – فاصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به “

أخرجه البخاري في الصحيح (9/118رقم7390)

وأما وجه الاستدلال :

فالحديث دلَّ على ما ذكرته من وجوه متعددة وإليك بيانها حسب ما ييسره الله لي :

الوجه الأول :

 قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث :” إذا هَمَّ بالأمر”

دل على أن المستخير يريد أمراً واحداً عازماً عليه إما الفعل وإما الترك.

قال الحافظ في فتح الباري (11/185) :” ظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة الأمر “.

وقال الألباني :” الذي أفهمه من سؤالك أنه لا هَمَّ عنده؛ ولذلك فلا استخارة لديه أو عليه . الاستخارة لا تدفع الحيرة، الاستخارة بعد أن يعزم الإنسان لعمل شيء ما، فهنا تأتي الاستخارة لرفع الشك والريب في أمر لم يعزم عليه المسلم لا تشرع”.

انظر : تفريغ سلسلة الهدى والنور الإصدار 4 (206/10) .

الوجه الثاني :

قوله صلى الله عليه وسلم :” اللهم إني أستخيرك بعلمك “

دل على أن المستخير يطلب علم ما يصلح له من الله لا من قلبه انشراحاً وعدمه

الوجه الثالث :

قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث :” فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه”

دل على أن الله هو الذي يقدر له الخير وييسره لا الانشراح والانقباض .

الوجه الرابع :

قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث :” فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به “

دل على أن المستخير قد يريد أمراً ويرغب فيه وينشرح له صدره ولكن باستخارته لله صرفه عنه ولم يتحقق .

فليس انشراح الصدر من حيث هو علامة على التيسير .

قال الحافظ في فتح الباري (11/186-187) :” قوله “فاصرفه عني واصرفني عنه” أي حتى لا يبقى قلبه بعد صرف الأمر عنه متعلقاً به ….

قوله “ثم رضني” … السر فيه أن لا يبقى قلبه متعلقاً به فلا يطمئن خاطره والرضا سكون النفس إلى القضاء “

وقال الشوكاني في نيل الأوطار (3/ 89) قَوْلُهُ: (فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ) هُوَ طَلَبُ الْأَكْمَلِ مِنْ وُجُوهِ انْصِرَافِ مَا لَيْسَ فِيهِ خِيَرَةٌ عَنْهُ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِسُؤَالِ صَرْفِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يَصْرِفُ اللَّهُ الْمُسْتَخِيرَ عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِأَنْ يَنْقَطِعَ طَلَبُهُ لَهُ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ خِيَرَةٌ بِطَلَبِهِ فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ، وَقَدْ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنْ الْمُسْتَخِيرِ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَلَا يَصْرِفُ قَلْبَ الْعَبْدِ عَنْهُ بَلْ يَبْقَى مُتَطَلِّعًا مُتَشَوِّقًا إلَى حُصُولِهِ، فَلَا يَطِيبُ لَهُ خَاطِرٌ إلَّا بِحُصُولِهِ فَلَا يَطْمَئِنُّ خَاطِرُهُ، فَإِذَا صُرِفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَر كَانَ ذَلِكَ أَكْمَلَ، وَلِذَلِكَ قَالَ: ” وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ ” لِأَنَّهُ إذَا قَدَّرَ لَهُ الْخَيْرَ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ كَانَ مُنَكَّدَ الْعَيْشِ آثِمًا بِعَدَمِ رِضَاهُ بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ مَعَ كَوْنِهِ خَيْرًا لَهُ “

الوجه الخامس :

عدم الدليل ، فلم يرد ما يدل على أن الانشراح علامة على الفعل أو الانقباض علامة على الترك .

وأظنك أدركت وجه الاستدلال من الحديث فاكتفي بهذه الأوجه وفيها كفاية لمن رام الحق وآثره على هواه . 

وأما مَنْ مِنَ العلماء قال بذلك :

فقد قال به جماعة من أهل العلم منهم :

  • ابن الزملكاني :

حيث قال كما في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (9/ 206) :” إذا صلى الإنسان ركعتي الاستخارة لأمر فليفعل بعدها ما بدا له سواء انشرحت نفسه له أم لا فإن فيه الخير وإن لم تنشرح له نفسه، وليس في الحديث اشتراط انشراح النفس”.

  • العز بن عبد السلام :

حيث قال كما في تحفة الأبرار بنكت الأذكار للسيوطي (85) :” إنه يفعل بعد الاستخارة ما أراد، وإنما يقع به الاستخارة فهو الخيرة، وإذا قلنا بما ذكره النووي من أنه يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوىً قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك استخارة رأيا، وإلا فلا يكون مستخيراً بل يكون مستخيراً لهواه، ويكون غير صادق في طلب الخيرة، وفي التبري من العلم والقدرة وإثباتهما لله تعالى، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن هواه ومن اختياره لنفسه … فمن لم يكن حاله في الاستخارة ترك هواه واختياره لنفسه لم يكن مستخيراً لله، بل هو تابع لهواه” انتهى

قال  الشيخ محمد بازمول في بغية المتطوع (129) :” ورحجه العراقي ورد كلام النووي ووافقه ابن حجر “

  • عبيد الله المباركفوري :

حيث قال في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/364-365) :” واختلف فيماذا يفعل المستخير بعد الاستخارة.

فقيل: يفعل ما بدا له ويختار أي جانب شاء من الفعل والترك وإن لم ينشرح صدره لشيء منهما، فإن فيما يفعله يكون خيره ونفعه، فلا يوفق إلا لجانب الخير، وهذا لأنه ليس في الحديث أن الله ينشئ في قلب المستخير بعد الاستخارة انشراحاً لجانب أو ميلاً إليه. كما أنه ليس فيه ذكر أن يرى المستخير رؤيا أو يسمع صوتاً من هاتف أو يلقى في روعه شيء، بل ربما لا يجد المستخير في نفسه انشراحاً بعد تكرار الاستخارة وهذا يقوي أن الأمر ليس موقوفاً على الانشراح. وفي الجملة المذكور في الحديث أنما هو أمر للعبد بالدعاء بأن يصرف الله عنه الشر ويقدر له الخير أينما كان، وهذا اختاره ابن عبد السلام والشيخ كمال الدين الزملكاني .

قلت: والراجح عندي قول من ذهب إلى أنه يفعل المستخير بعد الاستخارة ما بدا له واتفق، فليس الأمر منوطاً عندي على الانشراح أو الرؤيا؛ لأنه ليس في الحديث اشتراط انشراح النفس، ولا ذكر النوم بعد الاستخارة، وإطلاع ما هو خير له في رؤياه، والله أعلم” انتهى باختصار 

  • الشيخ محمد بازمول :

حيث قال في بغية المتطوع (129) من فوائد حديث الاستخارة :” فيه أن المسلم إذا صلى صلاة الاستخارة مضى لما عزم عليه سواء انشرح صدره أم لا”

وأما سؤالك عن حجة من قال من العلماء : إن انشراح الصدر أو عدم انشراحه دليل على الاستخارة فعلاً أو تركاً ؟

فهذا سؤال يدل على تقديمك للدليل وطلبك له؛ إذ الحجة في الدليل والبرهان لا في قول العالم إذ القاعدة السلفية تقول : قول العالم يستدل له ولا يستدل به . وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم .

وإنما لم يكن قول العالم حجة ودليل؛ لأنه غير معصوم، وأقواله اجتهادًا بين الصواب والخطأ فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد؛ فعن عمرو بن العاص، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”

أخرجه البخاري في الصحيح (9/108رقم7352) ومسلم في الصحيح (3/1342رقم1716) .

وهذا بخلاف الجاهل أو المتعصب الذي لا يعرف الدليل فضلاً عن وجه الاستدلال فهذا حقه السكوت وعدم الاعتراض؛ لأن المقلد جاهل لا يجوز له الاجتهاد بل يسعه قول العالم الذي يثق بعلمه ودينه وليس له أن يبطل قول عالم آخر لمجرد أنه خالف قول العالم الذي يقلده، وإنما هذا شأن العلماء ومن تأهل من طلاب العلم لذلك بالدليل والحجة .

قال عبد الرحمن بن مهدي البصري : قلت لأبي يوسف في المسجد الحرام , واختصم إليك رجلان في امرأة ليس بينهما بينة , كيف القول في ذلك؟ أو كيف تقضي ؟ قال: انظر فإذا رأيت أنها لأحدهما دفعتها إليه.

قلت: فإنك دفعتها إليه فبات معها , فلما كان الغد , رأيت أنها للآخر؟

قال: آخذها فأدفعها إلى الآخر .

قلت: فإنك رددتها إلى الآخر , فلما كان الغد رأيت أنها للأول .

قال: أردها إليه إذا رأيت ذلك .

قلت: فما حجتك في ذلك؟

قال: كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري , قال:” فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل”

قلت له: يا معتوه , وهذا هكذا الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل , هو أن يقضي الحاكم بالرأي , ثم يتبين له ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم , وأصحابه فيرجع إليه , وأما قولك هذا فهو الرجوع من الباطل إلى الباطل ” انظر كتابي : رسالة عمر في القضاء وآدابه(63).

ثم اعلم بارك الله فيك أن حجة من ذهب إلى هذا القول فيما يظهر لي :

حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” يا أنس، إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات، ثم انظر إلى الذي يسبق إلى قلبك، فإن الخير فيه”

        أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (550رقم598).

قال الحافظ في فتح الباري (11/187) :” سنده واهٍ جداً”

وقال العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (7/ 225):” الحديث ساقط لا حجة فيه”

وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (14/952رقم6908) :”ضعيف جداً”

وقد يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم ”  فاقدره لي ويسره لي”  على أن الانشراح دليل على التيسير.

وأما حجتي في عدم الأخذ بهذا القول وكوني لم آخذ بقول بعض أهل العلم أسأت الأدب وتقدمت على العلماء :

فاعلم بارك الله فيك أن الواجب على طالب العلم عند الاختلاف أن يطلب الحق ويسعى إليه ولو خالف قول شيخه أو عالم يحبه ويعظمه .

وليس هذا من سوء الأدب أو التقدم على العلماء؛ إذ الواجب العمل بالحق .

واحذر من مثل هذه الشنشنات التي يدندن بها المتعصبون والمتعالمون والجهال عند مخالفة شيخهم نصرة له ورداً للحق شعروا أو لم يشعروا !

قال ابن رجب الحنبلي في الحكم الجديرة بالإذاعة (33-) :” مخالفة بعض أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم خطأ من غير عمد، مع الاجتهاد على متابعته، هذا يقع كثيراً من أعيان الأمة من علمائها وصلحائها، ولا إثم فيه، بل صاحبه إذا اجتهد فله أجر على اجتهاده، وخطؤه موضوع عنه، ومع هذا فلا يمنع ذلك من علم أمر الرسول، نصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين، ولا يمنع ذلك من عظمة من خالف أمره خطأ، وهب أن هذا المخالف عظيم له قدر وجلالة، وهو محبوب للمؤمنين إلا أن حق الرسول مقدم على حقه وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم الأمة، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ .

ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العلماء على كل من خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد – لا بغضاً له بل هو محبوب عندهم، معظم في نفوسهم – لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليهم، وأمره فوق كل أمر مخلوق.

فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفوراً له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه، بل يرضى بمخالفة أمره ومتابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ظهر أمره بخلافه؛ لأن تناظرهم كان لظهور أمر الله ورسوله لا لظهور نفوسهم والانتصار لها.

وكذلك المشايخ والعارفون كانوا يوصون بقبول الحق من كل من قال الحق؛ صغيراً كان أو كبيراً وينقادون لقوله.

فلا يزال الناس بخير ما كان فيهم الحق وتبيين أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم التي يخطئ من خالفها وإن كان معذوراً مجتهداً مغفوراً له، ولهذا مما خص الله به الأمة لحفظ دينها الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم – أن لا تجتمع على ضلالة بخلاف الأمم السالفة.

فهاهنا أمران :

أحدهما : أن من خالف أمر الرسول في شيء خطأ مع اجتهاده في طاعته ومتابعة أوامره فإنه مغفور له لا ينقص درجته بذلك .

والثاني : أنه لا يمنعنا تعظيمه ومحبته من تبين مخالفة قوله لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيحة الأمة بتبيين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

ونفس ذلك الرجل المحبوب المعظم لو علم أن قوله مخالف لأمر الرسول فإنه يحب من يبين للأمة ذلك ويرشدهم إلى أمر الرسول، ويردهم عن قوله في نفسه، وهذه النكتة تخفى على كثير من الجهال لأسباب.

وظنهم أن الرد على معظم من عالم وصالح تنقص به، وليس كذلك، وبسبب الغفلة عن ذلك تبدل دين أهل الكتاب فإنهم اتبعوا زلات علمائهم، وأعرضوا عما جاءت به أنبياؤهم، حتى تبدل دينهم واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم. فكان كلما كان فيهم رئيس كبير معظم مطاع عند الملوك قبل منه كل ما قال، وتحمل الملوك الناس على قوله. وليس فيهم من يرد قوله، ولا يبين مخالفته للدين.

وهذه الأمة عصمها الله عن الاجتماع على ضلالة، فلا بد أن يكون فيها من يبين أمر الله ورسوله، ولو اجتهدت الملوك على جمع الأمة خلافه لم يتم لهم أمرهم.

يا لله العجب، لو ادعى معرفة صناعة من صنائع الدنيا – ولم يعرفه الناس بها، ولا شاهدوا عنده آلاتها – لكذبوه في دعواه ولم يأمنوه على أموالهم، ولم يمكنوه أن يعمل فيها ما يدعيه من تلك الصناعة، فكيف بمن يدعي معرفة أمر الرسول وما شوهد قط يكتب علم الرسول ولا يجالس أهله ولا يدارسه؟ فلله العجب كيف يقبل أهل العقل دعواه، ويحكمونه في أديانهم، يفسدها بدعواه الكاذبة؟ ” انتهى باختصار

إذا عرفت هذا فأنا احترام وأقدر العلماء الذين ذهبوا لذلك القول لكن الحق مقدم عندي .

والجواب عن ما استدلوا به من وجوه :

الأول : أن الحديث ضعيف بل شديد الضعف كما مر معك آنفاً .

قال الحافظ في فتح الباري (11/ 187) في معرض رده للحديث الذي استدل به النووي :” هذا لو ثبت لكان هو المعتمد لكن سنده واه جداً والمعتمد أنه لا يفعل ما ينشرح به صدره مما كان له فيه هوى قوي قبل الاستخارة”.

الثاني : أن قول النبي صلى الله عليه وسلم :” فاقدره لي ويسره لي” لا يدل على انشراح الصدر ، بل يدل على أن المستخير بعد أن يعزم على الأمر يمضي فيه فإما أن يتيسر وإما لا .

وإن كان انشراح الصدر قد يكون مؤنساً ومحفزاً لكن لا يجعل علامة فضلاً أن يشترط في المضي بالأمر انشراح الصدر فبينهما فرق دقيق لمن تأمله .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (10/539) :” إذا استخار الله كان ما شرح له صدره وتيسر له من الأمور هو الذي اختاره الله له “.

فتأمل كيف أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يعلق الاستخارة على انشراح الصدر بل جعلها تبعاً لما تيسر من الأمور .

ومن فهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يقول بأن انشراح الصدر هو دليل وعلامة على الاستخارة فقد أخطأ على ابن تيمية والله أعلم .

ويدل على ذلك قول ابن تيمية كما نقله عنه ابن قيم الجوزية في الوابل الصيب من الكلم الطيب (112) :” كان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره”.

فتأمل قوله و”ثبت في أمره” أي مضى لما عزم واستخار له .

ولم يذكر انشراح الصدر !

بل أشار ابن تيمية رحمه الله إلى أن من فعل الشيء أو تركه بناء على مجرد الانشراح أو الانقباض داخل في باب الطيرة والتشاؤم وليس من باب الفأل الحسن حيث قال رحمه الله في الفتاوى الكبرى (1/51-53) بعد أن ذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم “كان يحب الفال ويكره الطيرة” :” الفأل الذي يحبه هو أن يفعل أمراً أو يعزم عليه متوكلاً على الله، فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره مثل أن يسمع: يا نجيح، يا مفلح، يا سعيد، يا منصور، ونحو ذلك …

وأما الطيرة، بأن يكون قد فعل أمرا متوكلا على الله، أو يعزم عليه فيسمع كلمة مكروهة مثل: ما يتم، أو ما يفلح، ونحو ذلك، فيتطير ويترك الأمر، فهذا منهي عنه …

… إنما يسلك مسلك الاستخارة لله، والتوكل عليه، والعمل بما شرع له من الأسباب، لم يجعل الفأل آمراً له وباعثاً له على الفعل، ولا الطيرة ناهية له عن الفعل، وإنما يأتمر وينتهي عن مثل ذلك أهل الجاهلية … وإنما يسن له استخارة الخالق، واستشارة المخلوق، والاستدلال بالأدلة الشرعية التي تبين ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه وينهى عنه، وهذه الأمور تارة يقصد بها الاستدلال على ما يفعله العبد، هل هو خير أم شر؟ وتارة الاستدلال على ما يكون فيه نفع في الماضي والمستقبل، وكلا غير مشروع، والله سبحانه أعلم انتهى .

فأظنها واضحة لا تخفى إلا لمن لا يعقل العلم ولا يعرف مسالك العلماء في تقرير المسائل فمثل هذا لا يشتغل به ولا يلتفت إليه لأن الظل لا يستقيم والعود أعوج .

وهنا أضع قلمي وأرجع لشغلي وما لدي من أمور تشغلني

أسأل الله أن يبصرنا في ديننا

وأن يفرج همومنا وكروبنا

وأن يعيننا على أمورنا

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

والحمد لله رب العالمين .

كتبه

أحمد بن عمر بن سالم بازمول

الأحد ضحى

15 شوال 1438هـ

رابط لتحميل المقال بصيغة بي دي أف