التنبيه الرصين على مسألة تتعلق بالحلف واليمين
لفضيلة الشيخ د أحمد بازمول حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ألا وإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد :
فهذا تنبيه مهم يتعلق بمسألة قد يقع فيها بعض الناس في يمينه يؤذي بها أهله أو غيرهم بعدم حنثه (وقوعه في خلاف يمينه) بحجة أنه لا يريد أن يخالفها فراراً من الإثم !! وهو في الإثم قد وقع إذا كانت اليمين يحصل بها ضرر على أهله أو غيرهم .
وبعض الناس يتذرع بها ويتوصل منها لحصول الضرر على غيره !!
وقد بينت السنة : أن من فعل ذلك فهو آثم !!!
والدليل :
ما رواه أبو هريرة قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
“وَاَللَّهِ : لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ “
متفق عليه
وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
“من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليبر يعني الكفارة”
أخرجه البخاري
غريب الحديث :
قَوْلُهُ (لَأَنْ) َهِيَ لَامُ الْقَسَمِ
وَقَوْلُهُ ( يَلَجُّ ) أَيْ يَتَمَادَى فِي يَمِينِهِ وَيُصِرُّ عَلَيْهَا وَيَمْتَنِعُ مِنْ الْحِنْثِ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( اسْتَلَجَّ ) هُوَ مِنْ اللَّجَاجِ وَهُوَ التَّمَادِي عَلَى الشَّيْءِ وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ (فِي أَهْلِهِ) يُرِيدُ أَنَّ تِلْكَ الْيَمِينِ تَتَعَلَّقُ بِأَهْلِهِ ، وَيَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ حِنْثِهِ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ( آثَمُ ) أَيْ أَكْثَرَ إثْمًا أَوْ أَقْرَبَ إلَى الْإِثْمِ)(1).
مَعْنَى الْحَدِيثِ :
قال البغوي في شرح السنة (10/16) :
” يقول : إقامته على اليمين، وترك التحلل بالكفارة أكثر إثماً من التحلل، فكأنه يأمره بالتحلل إذا رأى التحلل خيراً ، وقيل : معناه يلج ، فلا يكفر ، ويزعم أنه صادق فيها ” انتهى
وقال الحافظ ابن حجر (11/520) :
” فسر البر بالكفارة والمراد أنه يترك اللجاج فيما حلف ويفعل المحلوف عليه ويحصل له البر بأداء الكفارة عن اليمين الذي حلفه إذا حنث “(2) انتهى
وقال العراقي في طرح التثريب (7/401) :
” وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ تَمَادِيَ الْحَالِفِ عَلَى يَمِينِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنْ الْحِنْثِ مَعَ تَضَرُّرِ أَهْلِهِ بِبَقَائِهِ عَلَيْهَا شَرٌّ مِنْ حِنْثِهِ مَعَ قِيَامِهِ بِالْكَفَّارَةِ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ ضَرَرٌ ، وَذَلِكَ لَا ضَرَرَ فِيهِ “
من فوائد الحديث :
قال العراقي في طرح التثريب (7/401) :
” في الحديث أَنَّ الْحِنْثَ فِي الْيَمِينِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِقَامَةِ عَلَيْهَا إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ .
ولَا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحِنْثُ مَعْصِيَةً ، وَلَوْ تَضَرَّرَ أَهْلُهُ بِبَقَائِهِ عَلَى الْيَمِينِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ عَلَيْهَا وَاجِبٌ ، وَلَا يَفْعَلُ مَصْلَحَةَ أَهْلِهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
ولَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَ الْأَهْلِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي أَنَّ نَفْعَ الْإِنْسَانِ وَضَرَرَهُ إنَّمَا يَعُودُ عَلَى أَهْلِهِ فَلَوْ عَادَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ عَادَ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ” لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا “.
فِيهِ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِتَقْدِيرِ الْحِنْثِ ” انتهى باختصار
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/520) :
” الحنث في اليمين أفضل من التمادي إذا كان في الحنث مصلحة !
ويختلف باختلاف حكم المحلوف عليه :
فإن حلف على فعل واجب أو ترك حرام فيمينه طاعة والتمادي واجب والحنث معصية وعكسه بالعكس .
وإن حلف على فعل نفل فيمينه أيضاً طاعة والتمادي مستحب والحنث مكروه .
وإن حلف على ترك مندوب فبعكس الذي قبله .
وإن حلف على فعل مباح فإن كان يتجاذبه رجحان الفعل أو الترك كما لو حلف لا يأكل طيباً ولا يلبس ناعماً … فيختلف باختلاف الأحوال وإن كان مستوى الطرفين فالأصح أن التمادي أولى والله اعلم
ويستنبط من معنى الحديث أن ذكر الأهل خرج مخرج الغالب وإلا فالحكم يتناول غير الأهل إذا وجدت العلة والله اعلم
وإذا تقرر هذا وعرف معنى الحديث فمطابقته بعد تمهيد تقسيم أحوال الحالف أنه إن لم يقصد به اليمين كأن لا يقصدها أو يقصدها لكن ينسى أو غير ذلك … فلا كفارة عليه ولا إثم .
وإن قصدها وانعقدت ثم رأى أن المحلوف عليه أولى من الاستمرار على اليمين فليحنث وتجب عليه الكفارة .
فإن تخيل أن الكفارة لا ترفع عنه إثم الحنث فهو تخيل مردود .
سلمنا لكن الحنث أكثر إثماً من اللجاج في ترك فعل ذلك الخير …
وفي قوله ) ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا ( التفات إلى التي قبلها فإنها تضمنت المراد من هذا الحديث؛ فالمراد لا تجعل اليمين الذي حلفت أن لا تفعل خيراً سواء كان ذلك من عمل أو ترك سبباً يعتذر به عن الرجوع عما حلفت عليه خشية من الإثم المرتب على الحنث ؛ لأنه لو كان إثماً حقيقة لكان عمل ذلك الخير رافعاً له بالكفارة المشروعة ثم يبقى ثواب البر زائداً على ذلك …. ” انتهى بتصرف يسير .
كتبه
أحمد بن عمر بن سالم بازمول
الأربعاء الموافق 29 ذو القعدة 1435هـ
الســــ 10 : 12ــــاعــــ ظهراً ــــة
(1) انتهى ملخصاً من طرح التثريب (7/400) للعراقي.
(2) وهذا ما رجحه الإمام الفقيه الألباني رحمه الله تعالى في السلسلة الصحيحة (3/491).