صيانة السلفي من وسوسة وتلبيسات علي الحلبي الحلقة الثالثة لفضيلة الشيخ د أحمد بازمول حفظه الله


بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرورأنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهدأن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ألاوإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةبدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .

أما بعد :

فقد سبق في الحلقة الثانية مناقشة الحلبي في مسألة الجرح المفسر، وقد لقيت بحمد الله تعالى قبولاً واستحساناً من كثير من أهل العلم وطلاب العلم، فممن أثنى على الحلقة شيخنا ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى وشيخنا محمد بن عمر بازمول حفظه الله تعالى وغيرهما.

وفي هذه الحلقة سأكمل مناقشتي للحلبي في بعض ما أورده في نفس المسألة؛ ليظهر بجلاء عدم إصابته الحق، في هذه المسألة، بل إنه أخطأ خطأ فاحشاً لا يتصور من دارس لعلم مصطلح الحديث.

فأقولمستعيناً بالله تعالى :

1- قال الحلبي فيما سماه بـ “منهج السلف الصالح” حاشية2 (ص102):
” قال شيخُ الإسلام في «الاستقامة» (1/176): «مِن شِعارِ أهلِ البِدع: إلزامُ النَّاسِ بقولِهم”.
أقول: لم أقف على هذا الكلام في الاستقامة؛ لا في الموضع المشار إليه ولا في غيره.
ولعل الحلبي أخطأ في العزو إلى الاستقامة فإني وجدت هذا الكلام في الفتاوى الكبرى (5/17) بلفظ :” ولهذا كان من شعار أهل البدع إحداث قول أو فعل وإلزام الناس به وإكراههم عليه والموالاة عليه والمعاداة على تركه”.
فلعل الحلي أخذ الكلام من الفتاوى الكبرى وتصرف فيه؛ ليوافق مراده!
فكلام شيخ الإسلام فيمن أحدث قولاً مبتدعاً وألزم الناس به.
فإن قال الحلبي غير هذا فليأتِ به من الاستقامة بحروفه.

2- وقال في حاشية2 (ص102) فيما سماه بـ “منهج السلف الصالح”:
” وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في “الفتاوى الكبرى” (5/18):
“كان أئمة أهل السنة والجماعة لا يُلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد، ولا يُكرهون أحداً عليه”.
أقول: ” قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/4) يحكي امتحان أهل الضلال له وشروطهم الباطلة التي أرادوا فرضها عليه وسجلوها في ورقة، ونص هذه الشروط :
” الذي نطلب منه(1) أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز وأن لا يقول: إنَّ كلام الله حرف وصوت قائم به بل هو معنى قائم بذاته وأنه سبحانه لا يشار إليه بالأصابع إشارة حسية ويطلب منه أن لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها”.

فكتب شيخ الإسلام جواباً على هذه الشروط والإلزامات الباطلة من سبعة عشر وجهاً، منها ما قاله في الفتاوى الكبرى (5/17-18):
“( الوجه الرابع عشر ) ليس لأحد من الناس أن يلزم الناس ويوجب عليهم إلا ما أوجبه الله ورسوله ولا يحظر عليهم إلا ما حظره الله ورسوله فمن أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله وحرم ما لم يحرمه الله ورسوله؛ فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله وهو مضاه لما ذمه الله في كتابه من حال المشركين وأهل الكتاب الذين اتخذوا ديناً لم يأمرهم الله به وحرموا ما لم يحرمه الله عليهم، وقد بيّن ذلك في سورة الأنعام والأعراف وبراءة وغيرهن من السور.
ولهذا كان من شعار أهل البدع إحداث قول أو فعل وإلزام الناس به وإكراههم عليه والموالاة عليه والمعاداة على تركه.
كما ابتدعت الخوارج رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه وابتدعت الرافضة رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه وابتدعت الجهمية رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه لما كان لهم قوة في دولة الخلفاء الثلاثة الذين امتحن في زمنهم الأئمة لتوافقهم على رأي جهم الذي مبدؤه أن القرآن مخلوق وعاقبوا من لم يوافقهم على ذلك، ومن المعلوم أن هذا من المنكرات المحرمة بالعلم الضروري من دين المسلمين فإن العقاب لا يجوز أن يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم ولا يجوز إكراه أحد إلا على ذلك والإيجاب والتحريم ليس إلا لله ولرسوله فمن عاقب على فعل أو ترك بغير أمر الله ورسوله وشرع ذلك ديناً فقد جعل لله نداً ولرسوله نظيراً بمنـزلة المشركين الذين جعلوا أنداداً أو بمنـزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب وهو ممن قيل فيه { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (الشورى:21)، ولهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد ولا يكرهون أحدا عليه “.

1- انظر ماذا يطلب هؤلاء الضالون من شيخ الإسلام من الضلالات وموقف شيخ الإسلام من هذه الأباطيل والردود العلمية عليها.
2- أرأيت لو طلبوا من شيخ الإسلام حقاً واجباً أيرفض هذا الطلب ويذهب يرد عليهم من سبعة عشر وجهاً.
3- لو طلبوا منه نهياً عن منكرات وهو قادر على إنكارها هل سيقول شيخ الإسلام لا يلزمني؟ وهل سيذهب يؤلف كتاباً أو كتباً لتقرير قاعدة لا يلزمني؟
4- أرأيت لو طلبوا منه نصرة الحق وردع الباطل أكان سيذهب يدافع عن أهل الباطل والأهواء ويحارب من ينصر الحق ويذب عن دين الله ومنهج السلف الصالح.
5- هل سيقف شيخ الإسلام أو غيره من ذوي المناهج السديدة والفطر السليمة والعقول الصحيحة هل سيقفون إلى جانب أهل الباطل يذبون عنهم ويكيلون السباب والشتائم والتهم لأهل الحق نصراً لأهل الأهواء.

لقد نزَّل الحلبي كلام شيخ الإسلام في الرد على الجهمية والمعتزلة والفلاسفة وأهل البغي والعدوان على أهل السنة(2)، نزّل هذا الكلام على أهل الحق أي على النقيض مما أراده شيخ الإسلام، وذلك أن الحلبي يدافع عمن يتولى أهل الضلال، ويحاربون أهل السنة أشد الحرب ويشوهونهم أشد أنواع التشويه، ويُقعِّد الحلبي القواعد للذب عن هذه الأصناف وللحرب على أهل السنة.
ويجر كلام شيخ الإسلام المحارب لأهل البدع إلى نصرة أهل الباطل تاركاً سياق كلام شيخ الإسلام وسباقه كاتماً لغايته وهدفه، وما كفاه ذلك حتى أبعد من كلام شيخ الإسلام ما يبين بطلان استشهاده بما اختطفه من كلامه لإدانة أهل الحق.
اقرأ كلام شيخ الإسلام جيداً واعرف مقصوده بدقة، وتأمل قوله: ” ولهذا كان من شعار أهل البدع إحداث قول أو فعل وإلزام الناس به وإكراههم عليه والموالاة عليه والمعاداة على تركه كما ابتدعت الخوارج رأيها وألزمت الناس به ووالت وعادت عليه “، إلى آخر الطوائف التي ذكرها من روافض وجهمية(3).

وتأمل قول شيخ الإسلام: ” فإن العقاب لا يجوز أن يكون إلا على ترك واجب أو فعل محرم ولا يجوز إكراه أحد إلا على ذلك والإيجاب والتحريم ليس إلا لله ولرسوله…الخ.
وأهل السنة لا يطلبون من الحلبي وأمثاله إلا القيام بواجب نصرة الحق وأهله ورد الظلم والبغي على أهل السنة في أمور اجتهادية؛ ولكنه يفعل العكس بمناصرة أهل الباطل والمحاماة عنهم…الخ، ومع ذلك يُنـزِّل كلام شيخ الإسلام عليهم.
ونحن لا نملك عقوبة أحد لا على ترك واجب ولا على فعل محرم، ولكن نملك أن نقول كلمة الحق في من يرتكب المنكرات والمحرمات؛ مثل رمي الصحابة بأنهم غثاء، ومثل الطعن في العلماء من أهل السنة وإسقاطهم، ومثل التأصيلات الفاسدة التي تسقط أصول أهل السنة في الجرح والتعديل وأصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأصل النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين؛ بمثل قاعدة:
1- “نصحح ولا نُجرِّح”.
2- وقاعدة “لا يلزمني” التي تهدف إلى إسقاط الحق وعلمائه.
3- ومثل “نريد منهجاً واسعاً أفيح يسع أهل السنة والأمة كلها”.
أي عدم التفريق بين أهل السنة وأهل البدع والضلال مهما بلغت البدع من الخطورة على الإسلام والمسلمين.
4- ومثل الطعن في أهل السنة ورميهم بالغثائية وأنهم أراذل وأقزام وقواطي صلصة وأنهم وحوش، وأنهم لا يصلحون لرعية البقر.
5- ومثل الدعوة إلى مفارقة أهل السنة.
6- ومثل التأصيل لحماية أهل البدع الغليظة ورمي من ينتقد ضلالهم بأنهم غلاة في التجريح، وأنهم وحوش، إلى أصول أخرى وطعون ظالمة(4).
فنحن ننكر هذه المنكرات الجسيمة وما شابهها؛ تلك المنكرات التي يُبدع السلف ومنهم الإمام أحمد بما هو دونها بمراحل.
مثل قوله فيمن يشتم أهل الحديث: إنه زنديق زنديق، ولم يعارضه أحد من أهل السنة، ولم يرمه أحد بأنه من غلاة التجريح؛ بل لا نجد من أهل السنة إلا التأييد ، ومن المؤيدين له في هذا القول أبو عبد الله الحاكم النيسابوري وشيخا الإسلام ابن تيمية وابن قيم الجوزية.
أما نحن فقد تصدى لمعارضتنا في إنكارنا باللطف لهذا الدمار أناس يدّعون أنهم من أهل السنة، ويرون هذه الفواقر أنها لا تضر مرتكبها؛ لأنهم يرونها كالذباب يمر على أنف أحدهم فيقول بيده هكذا.
ويا ويل من ينكر عليهم هذه المواقف ويذكرهم بواجبهم من نصرة أهل الحق الذابين عن منهج السلف وأصوله.
فلا يُرى منهم إلا مناصرة أهل الفتن والذب عنهم وتوسيع دائرة الفتن واحدة تلو الأخرى، فيصدق عليهم قول الله – تبارك وتعالى- {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه}.
وأخيراً فشيخ الإسلام ابن تيمية في وادٍ وهذا المستشهد بكلامه المبتور في واد آخر.
وابن تيمية حياته كلها جهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وذب عن دين الله، ومن ذلك الجهاد كلامه هنا.
وهؤلاء على طريقة من يقول: لا يضر مع الإيمان ذنب؛ بل ذنوب، فلا يلزمهم نصرة الحق ، ولا قول الحق، ولا تقنعهم الحجج الواضحة، ويريدون تغيير قواعد الجرح والتعديل، وتأييد قاعدة “لا يلزمني” وأخواتها من القواعد الباطلة.

5-قال الحلبي فيما سماه بـِ “منهج السلف الصالح” حاشية (ص102):
” وقال – رحمه الله- في مجموع الفتاوى (11/487) : ” فلا يجب على الناس أن يقولوا ما لم يوجب اللهُ قولَه عليهم. وقد يقول الرجلُ كلمةً وتكون حقاً(5) لكن لا يجب على كل الناس أن يقولوها! وليس له أن يوجبَ على الناس أن يقولوها، فكيف إذا كانت الكلمة تتضمن باطلاً؟!”.

أقول: سُئل شيخ الإسلام – رحمه الله – كما في مجموع الفتاوى (11/476) عن كتاب “المرشدة” لابن تومرت كيف كان أصلها وتأليفها؟ وهل يجوز قراءتها، فأجاب إجابة مطولة.
منها قوله في (11/486-487) من مجموع الفتاوى:
“فصاحب ( المرشدة ) لم يذكر فيها شيئاً من الإثبات الذي عليه طوائف أهل السنة والجماعة ولا ذكر فيها الإيمان برسالة النبي ولا باليوم الآخر وما أخبر به النبي من أمر الجنة والنار والبعث والحساب وفتنة القبر والحوض وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، فإن هذه الأصول كلها متفق عليها بين أهل السنة والجماعة. ومن عادات علمائهم أنهم يذكرون ذلك في العقائد المختصرة.
بل اقتصر فيها على ما يوافق أصله وهو القول بأن الله: وجود مطلق، وهو قول المتفلسفة والجهمية والشيعة ونحوهم ممن اتفقت طوائف أهل السنة والجماعة أهل المذاهب الأربعة وغيرهم على إبطال قوله وتضليله.

فذكر فيها ما تقوله نفاة الصفات ولم يذكر فيها صفة واحدة لله تعالى ثبوتية.
وزعم في أولها أنه قد وجب على كل مكلف أن يعلم ذلك.
وقد اتفقت الأئمة على أن الواجب على المسلمين ما أوجبه الله ورسوله وليس لأحد أن يوجب على المسلمين ما لم يوجبه الله ورسوله والكلام الذي ذكره بعضه قد ذكره الله ورسوله فيجب التصديق به(6) وبعضه لم يذكره الله ولا رسوله ولا أحد من السلف والأئمة فلا يجب على الناس أن يقولوا ما لم يوجب الله قوله عليهم.
وقد يقول الرجل كلمة وتكون حقاً لكن لا يجب على كل الناس أن يقولوها(7) وليس له أن يوجب على الناس أن يقولوها فكيف إذا كانت الكلمة تتضمن باطلا؟
وما ذكره من النفي يتضمن حقا وباطلا فالحق يجب اتباعه والباطل يجب اجتنابه.
وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتاب كبير وذكرنا سبب تسميته لأصحابه بالموحدين فإن هذا مما أنكره المسلمون؛ إذ جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم موحدون ولا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد”.

أقول:
1- يرى القارئ أن شيخ الإسلام قد بيَّن هنا مضمون كتاب (المرشدة)، وما حواه من الضلال، وكان قد بيَّن ضلال وجهل وظلم وبغي ابن تومرت وأتباعه، وهذا البيان للباطل، وبيان ضده من الحق أمر واجب، وبيان ضلال أهل الباطل والتحذير منه ومنهم أمر واجب، وذلك من أعظم أبواب الجهاد، ومن أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وذلك أمر لم يقم به الحلبي؛ بل هو يعارض من يقوم به ويذمه، ويصفه بالأوصاف الظالمة القبيحة، ويدافع عن أهل الباطل على طريقة من يقول: لا يضر مع الإيمان ذنب، فهو يرى أن من لبس لباس السلفية لا يضره محاربته لأهل السنة ولا التأصيلات الفاسدة للذب عن أهل البدع والضلال وللحروب والشغب على أهل السنة كما قدّمنا طرفاً من فواقرهم وأصولهم.
بل يثني على أخطر أصولهم وينصرها ويؤلف لتأييدها وتقديمها على منهج السلف في الجرح والتعديل.
2- تأمل قول شيخ الإسلام في نقد ضلال ابن تومرت الذي سلك مسلك الفلاسفة والشيعة والجهمية في كتابه (المرشدة)، ثم السعي في إلزام المسلمين بضلاله وبما في كتابه من إلحاد وضلال.
يقول شيخ الإسلام: ” وليس لأحد أن يوجب على المسلمين ما لم يوجبه الله ورسوله”.
يقوله نقداً لأفاعيل ابن تومرت.
فهل السلفيون الذين يواجهون الأباطيل والمنكرات سيراً على طريقة السلف يُقال عنهم إنهم يوجبون على الناس ما لم يوجبه الله ورسوله؟
هل فرضوا على الناس الأباطيل والمنكرات حتى يستشهد الحلبي بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ابن تومرت وأمثاله؟
3- أتدري ما فعل الحلبي ؟
لقد أخفى كل ما ذكره شيخ الإسلام في ابن تومرت وأمثاله، واختطف هذه الجملة لتشويه السلفيين وإلحاقهم بأهل الباطل من أمثال ابن تومرت.
4- حذف الحلبي كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية يدينه بما اختطفه من كلام شيخ الإسلام، وينسف قاعدته “لا يلزمني” ويقضي على تمويهه؛ ألا وهو قول شيخ الإسلام:
” وما ذكره من النفي يتضمن حقاً وباطلاً فالحق يجب إتباعه والباطل يجب اجتنابه”.
فصرّح شيخ الإسلام بأن الحق يجب إتباعه، والباطل يجب اجتنابه.
والحلبي يعمل بضد هذا القول؛ حيث تراه ينصر أهل الباطل والفتن، ويذب عنهم على امتداد سنوات، ولا يلتزم منهج السلف في نصرة الحق وأهله وردع أهل الباطل والفتن؛ بل ترى مواقفه هذه لا تزيد نيران الفتن إلا تأججاً واشتعالاً، ويُنبه لنتائج مواقفه ولا يرعوي؛ بل لا يزيد على مر الأيام والسنين إلا دفاعاً عن أهل الباطل وكيلاً للتزكيات لهم؛ بل يؤلف المقالات لتأكيد نصرهم وترسيخ مناهجهم وأصولهم الفاسدة، فهل يتصور بلاء أشد على السنة وأهلها من هذا البلاء؟؟

6- قال الحلبي فيما سماه بـِ “منهج السلف الصالح ” (ص104):
“وَانْظُر إِلى مَا رَوَاهُ الخَطِيبُ فِي «الكِفايَة» (280)، وَالفَسَوِيُّ فِي «المَعْرِفَة وَالتَّارِيخ» (2/191) عَنْ أَحْمَد بن صَالِح -وَذُكِرَ مَسْلَمَةُ بن عَلِيّ-؛ فَقَال:
«لاَ يُتْرَكُ حَدِيثُ رَجُلٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ الجَمِيعُ عَلَى تَرْكِ حَدِيثِه..».
وَمِثْلُهُ قَوْلُ الإِمَامِ النَّسَائِيّ: «لاَ يُتْرَكُ الرَّجُلُ عِنْدِي حَتَّى يَجْتَمِعَ الجَمِيعُ عَلَى تَرْكِهِ».
فَأَيْنَ بَابُ (الجَرْحِ المُفَسَّر)(8) -هُنا-؟! “.

أقول : هذان القولان هما أقوى ما اعتمد عليه الحلبي في اشتراط الإجماع على التبديع، وإلا فلا يقبل التبديع، إلى جانب أصل “لا يلزمني” وأصل “لا بد من القناعة”، وقناعته وإقناعه من شبه المستحيلات.

ثم يُقال له: إنه لم يمنع أحمد بن صالح إلا من مرتبة واحدة من مراتب الجرح واقترح فيها أن يجتمع الجميع على تركه، ولم يسد باب الجرح المفسر.
ولم يمنع أن يقال فلان ضعيف ولا غيرها من مراتب الجرح؛ – بل ضعّف هو نفسه مسلمة بن علي-، ولم يمنع من قول فلان مبتدع أو رافضي أو شيعي أو خارجي أو مرجئ أو ناصبي…الخ.
ثم إن هذا رأي أحمد بن صالح، ولم يحكه إجماعاً عن أهل الحديث، ولم ينسبه إلى أحد من أئمة الجرح والتعديل.
وأما النسائي وإن نُسب إليه هذا القول فإنه معروف بالشدة في الجرح.
ثم إن الأئمة لم يأخذوا بهذا الرأي الذي نقله يعقوب الفسوي عن أحمد بن صالح في شأن مسلمة هذا، فقال النسائي والبرقاني والدارقطني في مسلمة هذا: متروك الحديث، انظر تهذيب التهذيب (10/146).
وقال الذهبي في الكاشف: تُرك، وقال الحافظ في التقريب: متروك، وضعّفه غير هؤلاء، انظر تهذيب التهذيب والميزان.
قال الحافظ تعليقاً على هذا الكلام المنسوب إلى النسائي في كتاب “النكت على كتاب ابن الصلاح” (1/482-484) :
“وما حكاه ابن الصلاح عن الباوردي أن النسائي يُخّرج أحاديث من لم يجمع على تركه ، فإنما أراد بذلك إجماعاً خاصاً(9) .
وذلك أن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط .
فمن الأولى : شعبة وسفيان الثوري وشعبة أشد منه.
ومن الثانية : يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى أشد من عبد الرحمن .
ومن الثالثة : يحيى بن معين وأحمد . ويحيى أشد من أحمد .
ومن الرابعة : أبو حاتم والبخاري . وأبو حاتم أشد من البخاري .
وقال النسائي : لا يترك رجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه .
فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه يحيى القطان مثلاً فإنه لا يترك لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقد(10).
وإذا تقرر ذلك ظهر أن الذي يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع ليس كذلك.
فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي تجنب النسائي إخراج حديثه. كالرجال الذين ذكرنا قبل أن أبا داود يخرج أحاديثهم وأمثال من ذكرنا . بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين .
وحكى أبو الفضل ابن طاهر قال : سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه فقلت له : إن النسائي لم يحتج به فقال : يا بني ! إن لأبي عبد الرحمن شرطاً في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم.
وقال أبو بكر البرقاني الحافظ في جزء له معروف :” هذه أسماء رجال تكلم فيهم النسائي ممن أخرج له الشيخان في صحيحيهما سألت عنهم أبا الحسن الدارقطني فدون كلامه في ذلك” وقال أحمد بن محبوب الرملي : سمعت النسائي يقول : لما عزمت على جمع السنن استخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشيء ، فوقعت الخيرة على تركهم(11) فنـزلتُ في جملة من الحديث كنت أعلو فيها عنهم .
وقال الحافظ أبو طالب : أحمد بن نصر شيخ الدارقطني :” من يصبر على ما يصبر عليه النسائي ؟ كان عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة فما حدّث منها بشيء”.
قلت : وكان عنده عالياً عن قتيبة عنه ولم يحدث به لا في السنن ولا في غيرها “. انتهى كلام الحافظ .

أقول : لقد اطلع الحلبي على هذا الكلام من الحافظ ابن حجر حول مذهب الإمام النسائي ونقل بعضه في نكته على نزهة النظر (ص191- 192)، ثم قال: “وكلمة الزنجاني هذه نقلها ابن طاهر في شروط الأئمة الستة (ص18)، وهي متعقبة بما تراه في “الباعث الحثيث” (ص32)، وانظر “سير أعلام النبلاء” (14/131 ،133)، و”زهر الربى” (1/10)، و “الرفع والتكميل” (291)”.
قلتُ: ولم أجد ما أشار إليه الحلبي في “الباعث الحثيث” لا في تحقيقه، ولا في شرح الشيخ أحمد شاكر من تعقب للزنجاني.
وأما الحافظ الذهبي فعلّق على كلام الزنجاني بقوله في “السير” (1/131): “قلت: صدق فإنه ليّن جماعة من رجال صحيحي البخاري ومسلم”، وأما السيوطي فقد نقل في زهر الربى كلام الحافظ أو جله، ولم أرَ له أي اعتراض، فكلام الذهبي فيه تأييد لكلام الزنجاني. ولا أدري ما هو هذا التعقب في “الباعث الحثيث”، ولا أدري ما الذي يقصده من الإحالة على هذه الكتب؟ هل لأن الرجل مصاب بداء اشتراط الإجماع في الجرح من أول حياته فهو يهمهم حوله من وقت مبكر؟ أو أنه مرض طارئ أصيب به في غمرة دفاعه عن أهل الفتن والشغب؟، ثم إن اقتصاره على ما نقله عن النسائي زاعماً أنه مذهبه، وإخفاءه لمذهبه الحقيقي والذي قرره وأكده العلماء النحارير ويؤكده واقعه لمما ينافي الأمانة العلمية، ويدل على أن الرجل يكثر من أخذ ما يوافق هواه على طريقة أهل الأهواء، ويكتم ما يخالف هواه، وإن هذا المنهج لمصيبة كبرى.

قلتُ : وإذا كان الأمر كذلك في مذهب أحمد بن صالح والنسائي فماذا يريد الحلبي من حكاية هذين القولين اللذين تخيل فيهما الإجماع؟
إنه يريد زعزعة قاعدة تقديم الجرح المفسر المبني على العلم والحجة والبرهان على التعديل المبني على الظاهر.
وفي هذا العصر المبني على الهوى والعناد والجهل والمكابرة، ولهذا يقول الحلبي كبير المعارضين لأهل الحق في نقد أهل الأهواء وحماة البدع يقول: فأين باب الجرح المفسر هنا؟ أي لقد أغلقه أو حطَّمه هذا الحلبي المدافع عن أهل الباطل.
هل خطر ببال النسائي أو أحمد بن صالح إغلاق باب الجرح المفسر وغير المفسر؟، فما جوابك على أن النسائي من المتشددين؟ وما رأيك في النسائي وقد ترك جماعة من رجال الصحيحين؟
ما رأيك في قول النسائي: ” لما عزمت على جمع السنن استخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشيء ، فوقعت الخيرة على تركهم فنـزلتُ في جملة من الحديث كنت أعلو فيها عنهم “.
وما رأيك في تركه لتخريج أحاديث ابن لهيعة وفيها ما يرويه العبادلة الأربعة عبد الله بن المبارك وعبد الله بن وهب وعبد الله بن يزيد المقرىء وعبد الله بن مسلمة القعنبي، هل ثار على النسائي وأمثاله معارضون يطعنون فيهم ويسمونهم غلاة التجريح حتى من أهل البدع؟ إننا والله في زمن اشتدت فيه غربة الإسلام.

نقل الحلبي في كتابه الذي سماه بـ”منهج السلف” (123) قول ابن حزم : ” لاَ آفَةَ أَضَرُّ عَلَى العُلُومِ وَأَهْلِهَا مِنَ الدُّخَلاءِ فِيهَا -وَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا-؛ فَإِنَّهُم يَجْهَلُونَ، وَيَظُنُّون أَنَّهُم يَعْلَمُون! وَيُفْسِدُونَ، وَيُقَدِّرُونَ أَنَّهُم يُصْلِحُون!”،
والحلبي يغمز ويطعن بهذا الكلام السلفيين.
والسلفيون الصادقون يعرفون من هم الأصلاء من الدخلاء، فالدخلاء: هم المنافحون عن أهل البدع والأهواء وواضعوا الأصول للذب عنهم.
فلو رأى ابن حزم هذا الصنف من الناس لقال فيهم أشد من هذه المقالة.
فأضر من الدخلاء: أهل الخيانة الذين يستدلون بالمتشابه؛ لتضليل الناس عن الحق، والذين لا يكتمون العلم؛ لتمرير باطلهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

7- قال الحلبي في حاشية2 (ص104):
“قال الإمام الصنعاني في “إرشاد النقاد” (ص13): ” قد يختلف كلام إمامين من أئمة الحديث في الراوي الواحد، وفي الحديث الواحد، فيُضعِّف هذا حديثاً، وهذا يصححه! ويرمي هذا رجلاً من الرواة بالجرح، وآخر يعدله!، وذلك مما يشعر أن التصحيح ونحوه من مسائل الاجتهاد الذي اختلفت فيه الآراء “.
قلتُ: ماذا يريد الحلبي من كلام الصنعاني؟ الظاهر من مواقفه وتصرفه أنه يريد التهوين وزعزعة القول بتقديم الجرح المفسر على التعديل وأن الصنعاني ممن يرى هذا.
ويقال له: رويدك، فإن الصنعاني بريء من هذا القول، وهاك رأيه في تقديم الجرح على التعديل.
قال رحمه الله في سبل السلام شرح بلوغ المرام في شرح حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – (1/277):
” كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه”، أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف”.
قال الصنعاني في أثناء شرحه لهذا الحديث وتخريجه:
” وأخرجه البيهقي أيضاً بإسناد الدارقطني وفي الإسنادين معاً القاسم بن محمد بن عقيل وهو متروك وضعفه أحمد وابن معين وغيرهما وعده ابن حبان في الثقات لكن الجارح أولى وإن كثر المعدل وهنا الجارح أكثر وصرح بضعف الحديث جماعة من الحفاظ كالمنذري وابن الصلاح والنووي وغيرهم”. انتهى
فهذا الصنعاني يرى تقديم الجرح على التعديل، وإن كثر المعدلون، ولو كانوا من الأئمة، فكيف إذا كان الجارحون أكثر، وهذا ما لا يريده الحلبي، وإن كان المزكون ليسوا من أهل الجرح والتعديل، وإن كانوا أقل من القليل.
8- قال الحلبي فيما سماه بـ ” منهج السلف الصالح ” في حاشية3 (ص104) :
” (تَنْبِيه): قُلْتُ فِي بَعْضِ مَجالِسِي: لاَ (يُلْزَمُ) أَحَدٌ بِالأَخْذِ بِقَوْلٍ جَارِحٍ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ مُقْنِعَةٍ، وَسَبَبٍ وَاضِحِ، أَوْ بِإِجْمَاعٍ عِلْمِيٍّ مُعْتَبَر.
فَفَهِمَها البَعْضُ -وَلاَ أَدْرِي كَيْفَ!- عَلَى أَصْلِ الجَرْح، وأَنَّهُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ إِجْمَاع!!
وَفَرْقٌ بَيْنَ (قولِه)، أو (قَبُولِهِ)، وَبينَ (الإِلْزَامِ بِهِ) كبيرٌ كثيرٌ -كَمَا لاَ يَخْفَى-!!”.

أقول:
أولاً – إن الحلبي قد نصب نفسه للمعارضة والتصدي لأهل السنة إذا هم انتقدوا أهل الباطل بالحجج البينة الواضحة المقنعة من كلام أهل الباطل أو أعمالهم، وذلك يكون بالنقل الأمين الموثق من كتابات أو أشرطة أهل الباطل بأصواتهم.
ثانياً- أهل السنة يدينون من يدافع عنهم الحلبي:
1- بالكذب.
2- بالخيانة.
3- بالدفاع عن رؤوس أهل البدع بالأكاذيب والخيانات.
4- بالتأصيل الباطل للدفاع عن هؤلاء الرؤوس وأتباعهم.
5- بالشهادة لأهل البدع مثل الإخوان المسلمين بأنهم من أهل السنة وبإطراء أهل البدع الغليظة كالشعراوي.
6- حرب أهل السنة بالأكاذيب والافتراءات العظيمة.
ثالثاً- أهل السنة وعلماء الجرح والتعديل يكفيهم من الجارح أن يقول في المجروح كذاب أو سيئ الحفظ أو كثير الغلط، ويعتبرون ذلك جرحاً مفسراً مقنعاً.
أما الحلبي فلا يقنعه شيء، ولو جئت بعشرات الحجج المفسرة !!!
ولو نقلت له عن المجروحين ما سطروه بأقلامهم الأكاذيب والخيانات المدمرة؛ لأن عمدته العناد والمكابرة.
رابعاً- ما هو الإجماع العلمي المعتبر الذي يطلبه الحلبي ؟
ومن هم أهل الإجماع العلمي المعتبر ؟ وهل هو منهم أو هو رأسهم؟
فلا يثبت جرح مفسر أو غير مفسر إلا به.
واليوم الحلبي يؤصل للدفاع عن أهل الباطل ويشوش ويهوش على قواعد الجرح والتعديل التي يكمن فيها حماية الإسلام من الباطل وأهله ومن دسائسهم وفتنهم.
خامساً- من غرائب وعجائب الحلبي أنه يجعل عدم القناعة بالحق حجة، ولو كانت صادرة عن عناد ومكابرة، فعلى قوله هذا فكل أهل الأهواء الذين لم يقتنعوا بالحق الذي عند أهل السنة معذورون، ولا تلزمهم الحجج والبراهين التي يواجه بها أهل السنة أهل الباطل، وهذه هي حرية التدين التي ينادي بها أهل الغرب، فإن لم تكن هي فهي أختها أو وليدتها.

وأما إنكارك يا حلبي : أنك تشترط الإجماع في قبول الجرح، فهو من تلونك وتلاعبك في الكلام، فأنت تقرر الشيء في مكان ثم تنفيه وتتهم غيرك أنه ما يفهم كلامك أو أنه قال شيئاً لم تقله؛ لكن قد شهد عليك جماعة باشتراط هذا الشرط فقد قلته أمام الشيخ ربيع بن هادي المدخلي ويشهد عليك الشيخ خالد بن عبد الرحمن المصري، ويشهد عليك الأخ أبو إسحاق زهير الجزائري ومسجل لك في بعض مجالسك وفي رد الزعتري (51، 52) نقل لقولك ومناقشته .

ثم قال الحلبي فيما سماه بـ “منهج السلف الصالح” (ص105) بعد قوله السابق :” فَأَيْنَ بَابُ (الجَرْحِ المُفَسَّر) -هُنا-؟!” :
” فَأَيْنَ بَابُ (الجَرْحِ المُفَسَّر) -هُنا-؟!
وَيَدُلُّكَ عَلَى عُمُومِ هَذا:
مَا بَوَّبَهُ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ فِي «الكِفَايَة» (ص342): «بَابُ ذِكْرِ بَعْض أَخْبَار مَنْ اسْتُفْسرَ فِي الجَرْح، فَذَكَرَ مَا لاَ يُسْقِطُ العَدَالَة».
ثُمَّ ذَكَرَ أَخْبَاراً فِي ذَلِك عَن ابْنِ مَعِين، وَوَهْب بن جَرِير -وَغَيْرِهِمَا-“.

مصير دعوى الإجماع الذي يدّعيه الحلبي

أولاً- هذه دندنة حول اشتراط الإجماع لقبول الجرح أو التبديع وإن مارى في ذلك وجادل.
ثانياً- توصل الحلبي من هذا الكلام الذي استدل به على إسقاط الجرح المفسر إلى قوله: “فَأَيْنَ بَابُ (الجَرْحِ المُفَسَّر) -هُنا-؟!”.
ثم أكد هذا بقوله: ” وَيَدُلُّكَ عَلَى عُمُومِ هَذا”.
يعني عموم بطلان قول جهابذة المحدثين ونقادهم “إن الجرح المفسر مقدم على التعديل”(12).
وقوله ” مَا بَوَّبَهُ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ فِي «الكِفَايَة» (ص342): «بَابُ ذِكْرِ بَعْض أَخْبَار مَنْ اسْتُفْسرَ فِي الجَرْح، فَذَكَرَ مَا لاَ يُسْقِطُ العَدَالَة»..
ثُمَّ ذَكَرَ أَخْبَاراً فِي ذَلِك عَن ابْنِ مَعِين، وَوَهْب بن جَرِير -وَغَيْرِهِمَا-.
وَمِنْهَا:
مَا رَوَاهُ في «الكفاية» (284) -أيضاً- أَنَّهُ قِيلَ لِلإِمَامِ شُعْبَةَ بْنِ الحَجَّاج
-المُلَقَّب -بِحَقٍّ- بِـ (أَمِير المُؤْمِنِين فِي الحَدِيث)-: لِمَ تَرَكْتَ حَدِيثَ فُلاَن؟!
قَالَ: «رَأَيْتُهُ يَرْكُضُ عَلَى بِرْذَوْنٍ، فَتَرَكْتُ حَدِيثَه»”. انتهى
أقول: إن في إسناد هذه الرواية:
1- محمد بن جعفر المدائني، قال أحمد وأبو داود: “لا بأس به”، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن قانع ضعيف، وقال ابن عبد البر: ليس بالقوي عندهم، وقال العقيلي في الضعفاء قال ابن حنبل: “ذاك الذي بالمدائن محمد بن جعفر سمعت منه؛ لكن لم أرو عنه قط، ولا أحدث عنه بشيء أبداً”، انظر تهذيب التهذيب (9/99)، وقال الحافظ في التقريب: “صدوق فيه لين”.
2- قال محمد بن جعفر قيل لشعبة والظاهر أنه لم يسمع هذا الكلام من شعبة مباشرة.
فرواية هذه حالها لا تثبت شيئاً فلا يفرح بها.
والحلبي يعني أنه إذا كان جرح هذا الإمام هذا مصيره – من عدم القبول – فجرح غيره من باب أولى بالسقوط والرد.
قال الحلبي فيما سماه بـ “منهج السلف الصالح” (ص106):
“ثُمَّ ذَكَرَ -عن شُعْبَةَ- أَخْبَاراً عِدَّةً مُتَفَرِّقَةً -فِي البَابِ نَفْسِهِ-“.
وسرد عدداً من أرقام الصحائف، ومما أشار إليه رواية محمد بن حميد الرازي قال: “ثنا جرير قال رأيت سماك بن حرب يبول قائماً فلم أكتب عنه”.
في هذه الرواية محمد بن حميد الرازي قال الحافظ الذهبي: وثّقه جماعة والأولى تركه، قال يعقوب كثير المناكير، وقال البخاري فيه نظر، وقال النسائي: ليس بثقة”، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: حافظ ضعيف، وكان ابن معين حسن الرأي فيه”، وقد سبق تضعيفه وتكذيب كثير له.
وباقي الروايات تحتاج إلى دراسة أسانيدها والنظر في معانيها، فلعل الصواب يكون مع المجرحين، فلا يكون الباحث حاطب ليل ويحسب أن كل حمراء تمرة وكل بيضاء شحمة.
ويحسن أن ننقل ما قاله الخطيب في الكفاية (ص180): ” ومذاهب النقاد للرجال غامضة دقيقة وربما سمع بعضهم في الراوي أدنى مغمز فتوقف عن الاحتجاج بخبره وإن لم يكن الذي سمعه موجباً لرد الحديث، ولا مسقطاً للعدالة، ويرى السامع أن ما فعله هو الأولى رجاء إن كان الراوي حياً أن يحمله ذلك على التحفظ وضبط نفسه عن الغميزة، وإن كان ميتاً أن ينـزله من نقل عنه منـزلته، فلا يلحقه بطبقة السالمين من ذلك المغمز. ومنهم من يرى أن من الاحتياط للدين إشاعة ما سمع من الأمر المكروه الذي لا يوجب إسقاط العدالة بإنفراده؛ حتى ينظر هل له من أخوات ونظائر، فإن أحوال الناس وطبائعهم جارية على إظهار الجميل وإخفاء ما خالفه، فإذا ظهر أمر يكره مخالف للجميل لم يؤمن أن يكون وراءه شبه له. ولهذا قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في الحديث الذي قدمناه في أول باب العدالة: “من أظهر لنا خيراً أمِناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرتي حسنة”. انتهى
أقول:
فكلام أئمة النقد شعبة أو غيره لا ينطلق من فراغ ولا بد له من أسباب مكروهة إذ قد يكون وراءها أخوات، ومستندهم قول الخليفة الراشد – رضي الله عنه- وقاعدة الأخذ بالظاهر وأن توكل السرائر إلى الله ولها أدلتها.

9- نقل الحلبي فيما سماه بـ”منهج السلف” (ص105-106) بعض جرح الإمام شعبة لبعض الناس؛ مثل قيل له: لم تركت حديث فلان؟! قال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه”.

أقول : وهذا من الحلبي من الصيد في الماء العكر حيث ينتقي مثل هذا الجرح.
ويترك أقوال الإمام شعبة وغيره من أئمة الجرح كل أقوالهم المعتبرة في الجرح المستوفية للشروط يضرب عنها صفحاً؛ لأنها ضد منهجه الفاسد الذي انتحله لمآرب رديئة.
فأين هي الأمانة؟ وأين هو الاعتزاز بمنهج أهل السنة في حماية دين الله من غوائل أهل البدع والأهواء والكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، إن هذا المرض فتاك وداء قاتل.
10- قال الحلبي فيما سماه بـ “منهج السلف الصالح” (ص 107) بعد انتقائه وإشارته إلى بعض أسباب الجرح التي لم تستوفِ الشروط عند أئمة الجرح والتعديل: ” فَهَلْ يُقَال: إِنَّ شُعْبَةَ -وهُو مَن هُو!- يَجْرَحُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ؟!
أَمْ يُقَال: هُوَ حَقٌّ ذو بَيِّنَةٍ -عِنْدَهُ-؛ لَكِنَّ غَيْرَهُ مِن الحُفَّاظِ خَالَفَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ مِنْه -لِتَفَاوُت الأَنْظَار-؟!!”.
والجواب: أن شعبة قد يترك الرواية عن الرجل لشبهة لا توجب الرد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (24/349) :” أما قول من قال: تركه شعبة؛ فمعناه أنه لم يرو عنه كما قال أحمد بن حنبل لم يسمع شعبة من عمر بن أبى سلمة شيئاً وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ومالك ونحوهم قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم لا توجب رد” انتهى.
ثم إن شعبة لم يجرح فلاناً هذا، وإنما تورع عن الأخذ براويته لما رأى من فعله ما يخل بالمروءة، وهذا أمر لا يسقط العدالة عند شعبة ولا عند غيره، ولو كان هذا الترك من شعبة قائماً على أمر جارح مستوف للشروط لما خالفه أحد من أئمة الجرح والتعديل، وإلا فهات ألفاظ شعبة الجارحة المعتبرة التي ردها العلماء!
إن هؤلاء العلماء ليسوا على منهجك القائم على العناد ورد الجروح القاتلة التي تتضمن فوق ما اشترطه أئمة الجرح والتعديل كالكذب والخيانة والتأصيل الباطل للدفع في نحور أصول أهل السنة ولحماية أهل البدع والأهواء.
11- قال الحلبي فيما سماه بـ “منهج السلف الصالح” (ص107): ” وَفِي «تَهْذِيب التَّهْذِيب» (9/131) عَن أَبِي عَلِيٍّ النِّيسَابُورِيّ، قَال: «قُلْتُ لابْنِ خُزَيْمَة: لَوْ حَدَّثَ الأُسْتَاذُ عَنْ مُحَمَّد بن حُمَيد؛ فَإِنَّ أَحْمَد قَدْ أَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْه؟!
فَقَال: إِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْه؛ وَلَو عَرَفَهُ -كَمَا عَرَفْنَاه-مَا أَثْنَى عَلَيْهِ -أَصْلاً-».
قُلْتُ:
فَلَمْ يَقُل -أَوْ يُقَلْ!- عَنْ أَحْمَد -في هذا- مع الإقرار بالفارق!- : مِسْكِين، ضَايِع، مَايِع، مُتَفَلْسِف، مُدافع عن أهل البدع!!”.
أقول:
1- إن هذا لمن أعظم الحجج عليك في تقديم الجرح على التعديل ولو كان صادراً من مثل الإمام أحمد.
2- لم يوجد من أهل العلم من هب معارضاً لابن خزيمة يقول له كيف تقول هذا القول في إمام الأئمة أحمد بن حنبل لم يعرفه ولو عرفه ما أثنى عليه كيف وكيف؟!!
ولم تقم ضد ابن خزيمة جبهة معارضة تحاربه وتسقط جرحه حتى المبهم، وتقول هذه الجبهة يكفينا الإمام أحمد الذي زكى محمد بن حميد كما قامت جبهات ممن يدافع عنهم الحلبي تقول فلان معنا، ويبالغون في تمجيده لرد الحق ونصرة باطلهم.
3- ونحن نقول مثل ما قال ابن خزيمة إن فلاناً لم يعرف من جرحهم بأقوالهم وأفعالهم عدد من علماء السنة جروحاً مبينة مفصلة واضحة.
ولو عرفهم فلان ما أثنى عليهم، ولعله لم يثنِ عليهم، وإنما تتعلق به هذه الجبهات بسكوته.
4- لو أدرك ابن خزيمة الإمام أحمد وبيّن له حال محمد بن حميد لما تردد في قبول جرحه، ولتراجع عن ثنائه على محمد بن حميد، فكيف لو بلغ الإمام طعون علماء آخرين في ابن حميد، وكل هذا وذاك لا يمشي عند الحلبي ومن على شاكلته.
12- قال الحلبي فيما سماه بـ “منهج السلف الصالح” حاشية (ص105) :
“قال الإمام الذهبي في “السير” (11/82): “وإذا اتفقوا على تعديل أو تجريح، فتمسك به”.
الجواب: هل يريد الذهبي بهذا الكلام اشتراط الإجماع في قبول الجرح ، وإسقاط ما لم يقم عليه الإجماع؟
حاشا الذهبي من هذا المذهب المبتدع.
لو كان الذهبي يحمل هذا الفكر لما ألّف الميزان والضعفاء والمغني في الجرح وغيرها، تلك الكتب التي امتلأت بالجرح ولما كتب إلا وريقات.
إن الذهبي وغيره من أئمة الجرح والتعديل لا يشترطون الإجماع الذي أصله الحلبي لحماية البدع ويلهج به، ويقدمون الجرح المفسر المستوفى الشروط على التعديل ولو من عالم واحد بدون تردد أو تهويش؛ بل يقبلون الجرح المبهم كثيراً وكثيراً إذا خلا المجروح من التعديل المعارض من إمام.
والحلبي على خلاف ذلك.
13- وقال الحلبي فيما سماه بـ “منهج السلف الصالح” حاشية (ص105): “وقال شيخ الإسلام في “منهاج السنة النبوية” (3/98) : “والحق: أن أهل السنة لم يتفقوا – قط- على خطأ”.
والكلام – كله – حول (أهل السنة) – وفيهم – لا بالمبتدعة وذويهم”.
1- يقال هل يريد شيخ الإسلام بهذا الكلام اشتراط الإجماع في قبول الجرح؟
إن نقل الحلبي له في هذا السياق يفيد هذا، وهذا من العجائب.
ولا يسعنا إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
يا رجل اتقِ الله ولا تحمل كلام الأئمة ما لا يحتمل.
إن كلام شيخ الإسلام فيه بيان منـزلة أهل السنة، وأنهم لا يتفقون على خطأ وضلال كما يفعل أهل البدع والضلال.
وحاشاه أن يريد أنه لا يقبل الجرح إلا بإجماع؛ لأن هذا يبطل أقوال أئمة الجرح والتعديل وتقديم الجرح المفسر على التعديل.
2- ليس لكلام شيخ الإسلام علاقة بالجرح والتعديل وتقديم الجرح المفسر على التعديل.
والحق أن الحلبي يريد أن يُلبِّس على من يثق فيه و لا يبالي بالعقلاء الذين يدركون قصده وتلبيسه.
لذا تراه يحشر كل عبارة فيها لفظ أجمعوا أو اتفقوا ليوهم أتباعه أنه لا يقبل الجرح في أحد إلا إذا قام الإجماع على هذا الجرح، ولقد أكثر من الإرجاف بهذا اللون من النقل.
وهذا دندنة حول إنكار أخبار الآحاد وأشد من اشتراط المعتزلة تعدد الراوي وأنه لا يقبل الخبر إلا إذا رواه راويان عدلان.
14- وقال علي الحلبي فيما سماه بـِ “منهج السلف الصالح” حاشية (ص105-106) :
” وفي «التنكيل» (1/67-98) -للعلَّامة المُعَلِّمي-، قال:
«كان ابنُ معينٍ إذا لقي في رحلتِهِ شيخاً، فسمِعَ منه مجلساً، أو ورد بغدادَ شيخٌ، فسمِع منه مجلساً، فرأى تلك الأحاديثَ مستقيمةً، ثُمَّ سُئِلَ عن الشيخ؟ وثَّقه.
وقد يتَّفِقُ أنْ يكونَ الشيخُ دجَّالاً استقبَل ابنَ معينٍ بأحاديثَ صحيحةٍ! ويكون قد خَلَطَ قبلَ ذلك، أو يخلطُ بعد ذلك!
ذَكَرَ ابنُ الجُنَيْد أنه سأل ابنَ معين عن محمد بن كثير القرشي الكوفي؟ فقال: «ما كان به بأسٌ»، فحكى له عنه أحاديثَ تُسْتَنْكَرُ، فقال ابنُ معين: «فإن كان هذا الشَّيْخ رَوَى هذا فهو كَذَّابٌ؛ وإلا؛ فإنِّي رأيتُ حديثَ الشيخِ مستقيماً».
وقال ابنُ معين في محمد بن القاسم الأَسَدِيّ: «ثقةٌ، وقد كتبتُ عنه».
وقد كذَّبَهُ أحمد، وقال: «أحاديثُهُ موضوعةٌ»، وقال أبو داود: «غير ثقة ولا مأمون، أحاديثُهُ موضوعةٌ».
وهكذا يقعُ في التضعيفِ؛ رُبَّما يجرحُ أحدُهم الراويَ لحديثٍ واحدٍ استنكرهُ، وقد يكونُ له عُذْرٌ»”.
أقول:
إن فيما قاله العلامة المعلمي في الإمام ابن معين وهو من هو إمامة في الجرح والتعديل أكبر حجة عليك إذ في كل ذلك تقديم الجرح على التعديل.
1- فهذا المعلمي قد وصف بعض من يزكيهم الإمام ابن معين: بالدجل على ابن معين؛ ليحصل منه على التزكية؛ فقد يصل إلى مطلوبه.
2- وهذا ابن معين نفسه لما ذكر له تلميذه في محمد بن كثير ما يسقط روايته وعدالته لم يعاند ولم يصر على تعديل محمد بن كثير؛ بل قال: ” فإن كان هذا الشَّيْخ رَوَى هذا فهو كَذَّابٌ “، وهذا أشد أنواع الجرح من ابن معين في شخص قد قام سابقاً بتعديله، وهذا من مزايا أهل السنة والحق في الرجوع عن الخطأ إلى الصواب وفي الرجوع من الباطل إلى الحق، وهذا الرجوع من ابن معين بناء منه على القاعدة التي يشنشن ويطنطن الحلبي لتشويهها وزعزعة الثقة بها، صدق من قال فيك: مسكين.
فأنت تسوق الكلام محتجاً به فإذا به حجة دامغة لك ولأمثالك.
ومحمد بن كثير قد طعن فيه عدد من الأئمة، وقال فيه الحافظ في التقريب: ضعيف…تمييز ، أي لم يروِ عنه أحد من الأئمة الستة، وراجع كلام الأئمة فيه، تهذيب التهذيب (1/418-419).
3- قال ابن معين في محمد بن القاسم الأسدي: “ثقة”، ولو نبهه أحد من العلماء، ولو من تلاميذه لغيّر رأيه فيه ولدمغه بالجرح القاتل.
وقال النسائي في محمد بن القاسم: “ليس بثقة، كذّبه أحمد، وقال ابن أبي حاتم: “ليس بقوي، ولا يعجبني حديثه”، وقال الآجري عن أبي داود: غير ثقة ولا مأمون أحاديثه موضوعة، وقال ابن عدي عامة ما يرويه عليه”، وقال الدار قطني: “كذاب”، وجرحه آخرون، انظر “تهذيب التهذيب” (9/407-408).
فلم يقل أحد من هؤلاء الأئمة: والله إن محمد بن القاسم قد وثّقه الإمام ابن معين، فنقدم تعديله؛ لأنه إمام ناقد بل متشدد في النقد.

أقوال العلماء في تقديم الجرح المفسر على التعديل

قال الخطيب البغدادي -رحمه الله- في “الكفاية” (ص175-176) “مطبعة السعادة”:

“باب القول في الجرح والتعديل إذا اجتمعا أيهما أولى

اتفق أهل العلم على أن من جرحه الواحد والاثنان وعدله مثل عدد من جرحه فإن الجرح به أولى(13).
والعلة في ذلك أن الجارح يخبر عن أمر باطن قد علمه، ويصدق المعدل ويقول له قد علمت من حاله الظاهرة ما علمتها وتفردت بعلم لم تعلمه من اختبار أمره وإجبار المعدل عن العدالة الظاهرة لا ينفى صدق قول الجارح فيما أخبر به؛ فوجب لذلك أن يكون الجرح أولى من التعديل.
أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال أنا عثمان بن أحمد الدقاق قال ثنا حنبل بن إسحاق قال ثنا خالد بن خداش قال سمعت حماد بن زيد يقول: كان الرجل يقدم علينا من البلاد، ويذكر الرجل، ويحدث عنه، ويحسن الثناء عليه، فإذا سألنا أهل بلاده وجدناه على غير ما يقول، قال: وكان يقول بلديُّ الرجل أعرف بالرجل.
قلت: لما كان عندهم زيادة علم بخبره على ما علمه الغريب من ظاهر عدالته جعل حماد الحكم لما علموه من جرحه دون ما أخبر به الغريب من عدالته”.
وقال الحافظ ابن الصلاح -رحمه الله – في مقدمته (ص99):
“إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل، فالجرح مقدم؛ لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله والجارح يخبر عن باطن خَفي على المعدل. فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل التعديل أولى. والصحيح والذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرناه(14)، والله أعلم”.
قال الزركشي -رحمه الله- في “النكت على مقدمة ابن الصلاح” (3/361-362):
” 244- ( قوله ): “فإن كان عدد المعدلين أكثر، فقد قيل: التعديل أولى”.
يعني لأن الكثرة تقوي الظن، والعمل بأقوى الظنين واجب كما في تعارض الحديثين والأمارتين، والصحيح تقديم الجرح لما ذكرنا، يعني لأن تقديم الجرح إنما هو لتضمنه زيادة خفيت على المعدل، وذلك موجود مع زيادة عدد المعدل ونقصه ومساواته، فلو جرحه واحد وعدله مائة قدم قول الواحد لذلك”.
وقال السخاوي نحو هذا الكلام(15).
في هذه الصورة تقديم قول المجرحين على المعدلين وإن زاد عدد المعدلين على المجرحين، حتى لو كان المجرح واحداً، وهم عدد كثير.
إن القول الفصل في الحجة والبرهان، والحجج والبراهين الواضحة مع السلفيين ضد خصومهم؛ ولكنه العناد والمكابرة(16).

قال السخاوي -رحمه الله- في “فتح المغيث” (2/188-189) ط “دار المنهاج”:
” الخامس في تعارض الجرح والتعديل في راوٍ واحد.
وقدموا أي جمهور العلماء -أيضاً- الجرح على التعديل مطلقاً، استوى الطرفان في العدد أم لا. قال ابن الصلاح: إنه الصحيح.
وكذا صحّحه الأصوليون، كالفخر، والآمدي؛ بل حكى الخطيب اتفاق أهل العلم عليه، إذا استوى العددان، وصنيع ابن الصلاح مُشعر بذلك.
وعليه يحمل قول ابن عساكر: أجمع أهل العلم على تقديم قول من جرح راويا على قول من عدّله، واقتضت حكايةُ الاتفاق في التساوي كون ذلك أولى فيما إذا زاد عدد الجارحين.
قال الخطيب: والعلة في ذلك أن الجارح مُخبِر عن أمر باطني قد علمه، ويصدِّق المعدِّلَ، ويقول له: قد علمتُ من حاله الظاهر ما علمتَه، وتفردتُ بعلم لم تعلمه من اختبار أمره، يعني: فمعه زيادة علم.
قال: وإخبارُ المعدِّلِ عن العدالة الظاهرة، لا ينفي صدقَ قول الجارح فيما أخبر به، فوجب لذلك أن يكون الجرح أولى من التعديل”.
وقال الخطيب البغدادي – رحمه الله- في “الكفاية” (ص177) “مطبعة السعادة” :
“فصل إذا عدل جماعة رجلاً وجرحه أقل عدداً من المعدلين فإن الذي عليه جمهور العلماء أن الحكم للجرح والعمل به أولى، وقالت طائفة بل الحكم للعدالة، وهذا خطأ لأجل ما ذكرناه؛ من أن الجارحين يصدقون المعدلين في العلم بالظاهر، ويقولون عندنا زيادة علم لم تعلموه من باطن أمره.
وقد اعتلت هذه الطائفة(17) بأن كثرة المعدلين تقوى حالهم، وتوجب العمل بخبرهم، وقلة الجارحين تضعف خبرهم. وهذا بعد ممن توهمه؛ لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك وقالوا: نشهد أن هذا لم يقع منه؛ لخرجوا بذلك من أن يكونوا أهل تعديل أو جرح؛ لأنها شهادة باطلة(18) على نفى ما يصح، ويجوز وقوعه وإن لم يعلموه فثبت ما ذكرناه”.
وانظر “فتح المغيث” للسخاوي (2/190-191).
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله- في “اختصار علوم الحديث” (1/287-289):
“أما إذا تعارض جرح وتعديل فينبغي أن يكون الجرح حينئذٍ مفسراً.
وهل هو المقدم؟ أو الترجيح بالكثرة أو الأحفظ ؟
فيه نزاع مشهور في أصول الفقه وفروعه وعلم الحديث.
والصحيح أن الجرح مقدم مطلقاً إذا كان مفسراً. والله أعلم”.

هل يشترط في قبول الجرح والتعديل تعدد الجارحين والمعدِّلين؟

قال الحافظ ابن الصلاح –رحمه الله- في مقدمته (ص98-99) :

” (الرابعة) اختلفوا في أنه هل يثبت الجرح والتعديل بقول واحد، أو لا بد من اثنين، فمنهم من قال: لا يثبت ذلك إلا باثنين كما في الجرح والتعديل في الشهادات، ومنهم من قال وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره: أنه يثبت بواحد لأن العدد لم يُشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله بخلاف الشهادات. والله أعلم”.
وقال ابن كثير – رحمه الله – في”اختصار علوم الحديث” (1/290):
“ويكفي قول الواحد في التعديل والتجريح على الصحيح”.

وقال النووي –رحمه الله- في “التقريب” مع تدريب الراوي (ص204):
“الخامسة: الصحيح أن الجرح والتعديل يثبتان بواحد، وقيل لا بد من اثنين.
وإذا اجتمع فيه جرح فالجرح مقدم”.
وقال السيوطي معلقاً على كلام النووي في “تدريب الراوي” (ص204) :
” (الخامسة الصحيح أن الجرح والتعديل يثبتان بواحد)؛ لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر فلم يشترط في جرح راويه وتعديله، ولأن التزكية بمنـزلة الحكم، وهو أيضاً لا يشترط فيه العدد ( وقيل لا بد من اثنين ) كما في الشهادة وقد تقدم الفرق قال شيخ الإسلام ولو قيل يفصل بين ما إذا كانت التزكية مسندة من المزكي إلى اجتهاده أو إلى النقل عن غيره لكان متجها لأنه إن كان الأول فلا يشترط العدد أصلاً لأنه بمنزلة الحكم وإن كان الثاني فيجري فيه الخلاف ويتبين أيضاً أنه لا يشترط فيه العدد لأن أصل النقل لا يشترط فيه فكذا ما تفرع منه انتهى”.
فماذا يقول من لا يقبل الجرح إلا بالإجماع؟ ولماذا يخفي هذا القول الحق وأمثاله

هل يشترط بيان سبب الجرح المبهم؟

رأي الجمهور أنه إذا صدر من عالم عدل مرضي فإنه يقبل جرحه ولا يشترط بيان سبب الجرح.
قال الحافظ ابن الصلاح -رحمه الله- في مقدمته (ص98) :
“قلت ولقائل أن يقول إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح أو في الجرح والتعديل. وقل ما يتعرضون فيها لبيان السبب؛ بل يقتصرون على مجرد قولهم: “فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء” ونحو ذلك، أو “هذا حديث ضعيف، وهذا حديث غير ثابت” ونحو ذلك. فاشتراط بيان السبب يُفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر.
وجوابه: أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف”.

قال العراقي –رحمه الله- في “التقييد والإيضاح” (ص141-142) :
” قوله ولقائل أن يقول إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح أو التعديل وقل ما يتعرضون فيها لبيان السبب بل يقتصرون على مجرد قولهم فلان ضعيف وفلان ليس بشيء ونحو ذلك إلى آخر السؤال.

والجواب الذي أجاب به ومما يدفع هذا السؤال رأساً أو يكون جواباً عنه أن الجمهور إنما يوجبون البيان في جرح من ليس عالماً بأسباب الجرح والتعديل وأما العالم بأسبابهما فيقبلون جرحه من غير تفسير(19) وبيان ذلك أن الخطيب حكى في الكفاية عن القاضي أبى بكر الباقلاني أنه حكى عن جمهور أهل العلم أنه إذا جرح من لا يعرف الجرح يجب الكشف عن ذلك قال ولم يوجبوا ذلك على أهل العلم بهذا الشأن قال القاضي أبو بكر والذي يقوى عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالماً كما لا يجب استفسار المعدل عما به صار المزكى عدلاً إلى آخر كلامه وما حكيناه عن القاضي أبي بكر هو الصواب.
وقد اختلف كلام الغزالي في نقله عن القاضي فحكى عنه في المنخول أنه يوجب بيان الجرح مطلقاً وحكى عنه في المستصفى ما تقدم نقله عنه وهو الصواب فقد رواه الخطيب عنه بإسناده الصحيح إليه، وحكاه أيضا عنه الإمام فخر الدين الرازي والسيف الآمدي وقال أبو بكر الخطيب في الكفاية بعد حكاية الخلاف على أنا نقول أيضاً إن كان الذي يرجع إليه في الجرح عدلاً مرضياً في اعتقاده وأفعاله عارفاً بصفة العدالة والجرح وأسبابهما عالماً باختلاف الفقهاء في ذلك قبل قوله فيمن جرحه مجملاً ولا يسأل عن سببه وقال إمام الحرمين في البرهان الحق أنه إن كان المزكى عالماً بأسباب الجرح والتعديل أكتفينا بإطلاقه وإلا فلا وما ذهب إليه الإمام في هذا اختاره أيضاً أبو حامد الغزالي وفخر الدين الرازي والله أعلم”.
قال الحافظ ابن كثير –رحمه الله- في “اختصار علوم الحديث” (1/285-286):
” قال الشيخ أبو عمرو: وأكثر ما يوجد في كتب الجرح والتعديل: “فلان ضعيف”، أو : “متروك”، ونحو ذلك، فإن لم نكتف به انسد باب كبير في ذلك.
وأجاب بأنا إذا لم نكتف به توقفنا في أمره، لحصول الريبة عندنا بذلك.
قلت: أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن، فينبغي أن يؤخذ مسلَّماً من غير ذكر أسباب، وذلك للعلم بمعرفتهم، واطلاعهم واضطلاعهم في هذا الشأن، واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة والنصح، لا سيما إذا أطبقوا على تضعيف الرجل، أو كونه متروكاً، أو كذاباً، أو نحو ذلك.
فالمحدِّث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في موافقتهم، لصدقهم وأمانتهم ونصحهم(20).
ولهذا يقول الشافعي في كثير من كلامه على الأحاديث: ” لا يثبته أهل العلم بالحديث”، ويرده ولا يحتج به، بمجرد ذلك. والله أعلم”.
أخي القارئ قارن بين كلام علماء الإسلام متتابعين في ذلك وبين كلام الحلبي الذي هو الغاية في التعنت القائم على الهوى.
فتارة يقول في كلام عدد من علماء السنة الثقات المقرون بالحجج والبراهين ” لا يلزمني “، وتارة يقول: ” لا يقنعني”، وتارة يقول: ” أين الإجماع”.
ومراده – والله أعلم – بالإجماع شخصه ومن هم على منهجه في مخالفات علماء السنة الصادعين بالحق القائم على البراهين.

(1) أي من شيخ الإسلام.

(2) وقد أكثر الحلبي من ذلك في كتابه هذا كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في بقية التعقبات.

(3) وهكذا تفعل هذه العصابة التي يدافع عنها الحلبي تؤصل أصولاً باطلة مضادة لأصول أهل السنة وفيها دفاع عن أهل البدع، فإذا خالفهم أهل السنة في ذلك سموهم غلاة وغلاة تجريح؛ بل وتكفيريين، وهذا أشد من الإلزام، ولا يُنكره الحلبي.

(4) فهل يقول سلفي مُنصف: إن هذه أمور اجتهادية ولا يلزمنا إنكارها؛ بل الواجب علينا الدفاع عن أهلها ونصرتهم.

(5) سيأتي بيان مراد شيخ الإسلام بهذا القول.

(6) لأن هذا حق فيجب القول به والإيمان والتصديق به، ولا يرد إلا الباطل، وهذه حجة دامغة للحلبي.

(7) أي أن هذا الحق مما لم يوجبه الله فيكون مثلاً من المندوبات أو المباحات أو يكون من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكون هناك من المؤمنين ممن تحصل بهم الكفاية في رد هذا المنكر والأمر بذلك المعروف فيسقط الحرج عن الباقين، وإلى هذا أشار شيخ الإسلام بقوله: “لا يجب على كل الناس أن يقولوها “، ثم إن الساكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجوز له أن يعارض الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

(8) الله أكبر: أنظروا يا أولي الألباب كيف لقد أضاع الحلبي الجرح المفسر هنا، ويعتبر هذا من نجاحه.

(9)وهذا يُبطل دعاوى الحلبي للإجماع الذي يشترطه في التبديع، ويدندن حوله.

(10) وهذا من الإجماع الخاص الذي ذكره الحافظ عن النسائي فيما سلف، فتنبه.

(11) وقد يكون من هؤلاء من روى عنهم الشيخان، فأين هي دعوى اشتراط الإجماع التي يطلقها الحلبي على الإمام النسائي؟

(12) بل عموم سقوط أنواع الجرح بدليل استدلاله بكلام أحمد بن صالح والنسائي كما رأيت ذلك، وبدليل هذه الشنشنة الطويلة والعريضة، ولو كان يخدم منهج السلف الصالح ما سلك هذه المسالك العوجاء والمميعة.

(13) في هذه الصورة اتفاق أهل العلم على تقديم الجرح على التعديل.

(14) مذهب الجمهور في هذه تقديم الجرح على التعديل، والعلة في الصورتين أن العلم والحجة مع الجارح أو المجرحين، فقد علم المجرحون ما لم يعلمه المعدل أو المعدلون.

(15) “فتح المغيث” (2/191).

(16) فأين دعوى اشتراط الإجماع على الجرح؟

(17) وقد اندثرت هذه الطائفة فلا نجد بعدها إلا حكاية أقوالها.

(18) وهذا حال شهادة من يعارض ويدافع عن أهل الباطل والفتن.

(19) انتبه لرأي الجمهور هذا وقارن بينه وبين من لا يقبل الجرح المفسر القائم على الحجج والبراهين.

(20) ما قرره ابن كثير هنا يتفق مع قول الجمهور.

محبكم
أبو عمر الكندي
أحمد بن عمر بن سالم بازمول